هل لحوم كل العلماء مسمومة ؟

✍ بقلم محمد عبد الرحمن صادق

 

يقول العلَّامة “ابن عساكر” في كتاب (تبيين كذب المفتري): “اعلم يا أخي وفَّقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممَّن يخشاه ويتَّقيه حق تقاته، أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ فإنَّ من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب…”.

 

وقبل أن نخوض في تفاصيل قوله (أنَّ لحوم العلماء مسمومة) فمن العقل أن نعرف من هم العلماء الواجب علينا توقيرهم وتبجيلهم واحترامهم، حتى لا نقع تحت طائلة ما حذرنا منه.

 

أولاً: صفات العلماء الربانيين في القرآن الكريم

 

لمعرفة صفات العلماء الربانيين لابد علينا أن نرجع إلى كتاب الله ونتتبع الآيات التي ذكرت العلماء وأصنافهم وما ورد في حق كل صنف منهم.

 

إن من يتتبع آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن العلماء الربانيين يجد أن هناك صِفات أساسية اتصفوا بها، يُمكن الرجوع لمواطن ذكرها في سور (آل عمران: 18)- (فاطر: 28)- (الإسراء: 109:107)- (الحج: 53)- (القصص: 80)- (سبأ: 6)- (المجادلة: 11).

 

من صفات العلماء الربانيين التي وردت في هذه الآيات:-

1- أنهم يُقرون لله تعالى دون سواه بالوحدانية.

2- أكثر الناس خشية لله تعالى؛ إجلالًا ومحبة وتعظيمًا.

3- أكثر الناس لله خشوعًا وتقوى؛ ثقة في موعود الله تعالى لعباده.

4- مُخبِتون لله تعالى؛ فهم أكثر العباد خضوعًا وتواضعًا.

5- ناصحون، آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، يجهرون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم.

6- كلهم ثقةٌ ويقين بأن طريق الله هو الحق المبين، وما دونه من طرق ما هي إلا طُرق للشيطان يخدع بها أولياءه.

7- لا يُساومون على الحقِّ ولا ينخدعون بغيره.

8- يتفاضلون فيما بينهم بقَدر العلم الذي يُحصِّلونه ويُطبِّقونه ويدْعون الناس إليه.

9- وكذلك يتفاضلون فيما بينهم بقدر موقفهم من الحق، ونصرتهم له، ودعوة الناس لذلك.

10- لا يتملقون ولا يُداهنون، فآراؤهم واضحة، ومواقفهم ثابتة، وحجَّتهم دامغة، وميزانهم هو ميزان الشرع الذي لا يُطفف الكيل أبداً.

 

ثانياً: أصناف من العلماء حذَّرنا القرآن الكريم منها:

 

على الجانب الآخر مما سبق نجد أن القرآن الكريم قد حذرنا من أناس يُطلق عليهم علماء غير أنهم باعوا آخرتهم من أجل دنياهم ومزقوا الدين ليرقعوا الدنيا.

 

ومن يتتبع آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن علماء السوء يجد أن هناك صِفات أساسية اتصفوا بها، ويمكن الرجوع لمواطن ذكرها في سور (البقرة: 75)- (البقرة: 174)- (الأعراف: 175، 176)- (التوبة: 34).

 

من صفات علماء السوء التي وردت في هذه الآيات:-

1- أنهم يُحرِّفون كلام الله تعالى ليوافق هواهم ومراد نفوسهم، أو لمحاباة ومداهنة الآخرين.

2- يكتمون كلامَ الله تعالى ليجلبوا مَغنمًا، أو ليدفعوا مَغرمًا.

3- ينسلخون من آيات الله تعالى ويتخلون عنها طمعًا في زخارف الدنيا وحطامها.

4- يستحلُّون الأموال ويأكلونها بالباطل دون مُراعاة لحُرمة ولا لعهد.

5- يصدُّون عن سبيل الله بما يصدر منهم من سلوك معوج، أو بما يصدرون من أحكام شاذة وفتاوى ضالة مُضلَّة، ما أنزل الله بها من سلطان.

 

ثالثاً: أقسام العلماء كما قسمها العلامة ابن عثيمين رحمه الله

 

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:

“ليس كل عالم يكون ثِقة، فالعلماء ثلاثة: علماء ملَّة، وعلماء دولة، وعلماء أمة”.

  • أما علماء الملَّة: فهؤلاء يأخذون بملَّة الإسلام وبحكم الله ورسوله ﷺ، ولا يُبالون بأحد كائنًا من كان.

  • وأمَّا علماء الدولة: فينظرون ماذا يريد الحاكِم، يصدرون الأحكامَ على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناقَ النصوص من الكتاب والسنَّة حتى تتَّفق مع هوى هذا الحاكم؛ وهؤلاء علماء دولة خاسرون.

  • وأما علماء الأمَّة: فهم الذين ينظرون إلى اتِّجاه الناس؛ هل يتَّجه الناس إلى تحليل هذا الشيء فيحلُّونه، أو إلى تحريمه فيحرِّمونه، ويحاولون أيضًا أن يلووا أعناق النصوص إلى ما يوافق هوى الناس” اهـ.

 

رابعاً: نموذجاً من نماذج العلماء الرَّبانيين

 

جاء في كتاب “طبقات الشافعية الكبرى” للسبكي: “كان الملك الصالح أيوب يتولَّى الشام، وبسبب خلافٍ بينه وبين أبناء عمِّه تنازل للنَّصارى عن بعض الحصون، فلمَّا خطب العز بن عبدالسلام في جامع بني أميَّة بدمشق يوم الجمعة كان مما قال: (اللهمَّ أبرم لهذه الأمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهي فيه عن المنكر)، وأفتى الناسَ بعدم جواز بيع الأسلحة للنَّصارى الذين أخذوا يَشترونها من دمشق، فغضب الملك، وسجن العزَّ بن عبدالسلام، ومن قبله سُجِن الإمام أحمد، وكثير من العلماء: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت: 2).

ثمَّ أرسل الملك إلى العزِّ في السجن أحد أعوانه وحاشيته، فقال له: أنا سأتوسط لك عند الملك ليُخرِجك، ولكنِّي أريد منك شيئا واحدًا فقط، وهو أن تَعتذر إلى الملك وتقبِّل رأسه، فقال العز: دعك عنِّي، والله لا أرضى أن يقبِّل السلطان يدي، عافاني الله ممَّا ابتلاكم به، يا قوم أنا في وادٍ وأنتم في وادٍ.

ذهب الملك لمقابلة قادة النصارى، فأخذ معه العز بن عبدالسلام، وسجنه في خيمة، وبينما كان الملك جالسًا مع النصارى، إذا بالعزِّ بن عبدالسلام يقرأ القرآن، ويصل صوتُه إليهم، فقال الملك: أتدرون من هذا الذي تَسمعون؟ قالوا: لا، قال: هذا من أكبر قساوستنا -ولم يقل: علمائنا- أتعلمون لماذا سجنتُه؟ قالوا: لا، قال: لأنَّه أفتى بعدم جواز بيع السِّلاح لكم، فقال النصارى: والله لو كان هذا قسيسًا عندنا، لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها؛ فخجل الملك وأطرق، وأمر بالإفراج عن العزِّ بن عبدالسلام.

 

خامساً: نموذجاً من نماذج علماء الفتنة والضلال

 

إن القُرب مِن السلطان، وكثرة الدخولُ عليه، يترتب عليها الافتتان به والعمل على إرضائه مما يجعل علماء السلطان يُرقِّعون دنياهم بتمزيق دينهم ويبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، والعياذ بالله.

إن القُرب مِن السلطان، وكثرة الدخولُ عليه، يترتب عليها الافتتان به والعمل على إرضائه مما يجعل علماء السلطان يُرقِّعون دنياهم بتمزيق دينهم ويبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، والعياذ بالله

عن الحسن البصريّ رحمه الله قال: “لا تزال هذه الأمّة تحت يدِ الله وكنفه ما لم يُمالئْ قرَّاؤُها أمراءَها” (تخريج الإحياء).

إن نماذج علماء السوء لا يخلو منهم عصر ولا دهر، ولن يخلو منهم عصر ولا دهر لأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة .

إن أبرز نموذج لعلماء السوء هو ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حين تحدث عن انتكاس بلعم بن باعوراء أشهر علماء بني إسرائيل.

إن بلعم هذا هو من قال الله تعالى في شأنه: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175}” (الأعراف: 175).

كما وصفه الله تعالى بقوله: “فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث” (الأعراف: من الآية 176).

قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: “هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف مِحبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث إنه كان أول من صنف كتاباً في أن “ليس للعالم صانع”.

وقال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآيات.

لقد وصل الأمر ببلعم بن باعوراء إلى أن أشار بنشر فاحشة الزنا في بني إسرائيل، حيث قال لقومه: “إن الله يُبْغِض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء فليستقبلنهم، وإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنُوا فيهلكوا” (تفسير الطبري).

من هذا النموذج ندرك أن انتكاس العلماء من أشد الأمور خطورة على الدين لذلك علمنا النبي ﷺ أن نستعيذ بالله تعالى من (الحور بعد الكور)، أي: الانتكاس بعد التمام والكمال.

إن العالِم بانتكاسه يُصبح مثالاً سيئاً للمتدينين، وفتنة كبيرة للعوام، وخنجراً مسموماً يستخدمه أعداء الدين ليضربوا به الدين في مقتل.

والعالم بانتكاسه يكون بذلك أشد خطراً على الدين من أعدائه ، لذلك ضرب الله تعالى المثل لهؤلاء بواحد من أخسِّ الحيوانات، فقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).

إن العالِم بانتكاسه يُصبح مثالاً سيئاً للمتدينين، وفتنة كبيرة للعوام، وخنجراً مسموماً يستخدمه أعداء الدين ليضربوا به الدين في مقتل

 

سادساً: واجبنا ودورنا تجاه العلماء

 

إن الأمة التي ترتقي إنما ترتقي بجهود علمائها الربانيين، والأمة التي تنتكس إنما تنتكس بما يفعله علماء السوء أعوان الشياطين.

 

أ‌) واجبنا نحو العلماء الربانيين

 

إن العلماء الربانيين الذين يعتبرون الدِّين هو اللحم والدم، ويضحُّون من أجله بالغالي والنَّفيس هم تِيجانٌ على الرؤوس، وأوسِمة على الصدور؛ بل نجوم في السماء، تبدِّد الظلام، وترشد الضال، وتؤنِس الحيران؛ لذا وجب توقيرهم وإنزالهم المنزلة اللائقة بهم.

إن احترام علماء الإسلام دليلٌ على صحَّة إيمان الأمَّة وسلامة إسلامها .

إن الأمَّة التي لا تقدِّر علماءها ولا تجعلهم في أسمى مَكانة، هي أمَّة لديها خَلَل في تفكيرها، وتراجع في قِيمها وأخلاقها.

إن الأمَّة التي لا تقدِّر علماءها ولا تجعلهم في أسمى مَكانة، هي أمَّة لديها خَلَل في تفكيرها، وتراجع في قِيمها وأخلاقها

جاء في سير أعلام النبلاء: قال محمد بن حمدون بن رستم: سمِعْتُ مُسْلم بن الحجَّاج، وجاء إلى البُخاري فقبَّل بين عينيه وقال: “دَعني حتى أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيبَ الحديث في عِلله”.

يقول ابن جماعة الكناني: “وكان بعض السَّلف إذا ذهب إلى شيخه تصدَّق بشيء، وقال: اللهمَّ استر عيبَ شيخي عنِّي، ولا تُذهب برَكة علمه منِّي”.

 

ب‌) دورنا نحو علماء الفتنة والضلال

 

إن علماء السوء الذين حذرنا الله تعالى منهم في كتابه يلوون عُنق الآيات والأحاديث وما جاء في الأثر حتى يُرضوا الحكام، ويضلوا العوام، وينفثوا في عقول الجميع أنَّهم لا يجب مُراجعتهم، وأنهم -دون غيرهم- قد أُوتوا من العِصمة ما ترفعهم إلى هذه المنزلة؛ فهم فوق النَّقد أو المُراجعة، وأن من يُراجع كلامهم على خطر كبير وذنب عظيم.

إن علماء السوء كالسوس الذي ينخر في أوصال الأمة، لذلك فلا احترام لهم ولا توقير، بل يجب كشف حِيلهم وفضح دورهم، ليحذرهم الناس ولا ينخدعوا بمعسول كلامهم ولا بلحن أقوالهم، وحتى لا يلبسوا على الناس دينهم.

إن علماء السوء كالسوس الذي ينخر في أوصال الأمة، لذلك فلا احترام لهم ولا توقير، بل يجب كشف حِيلهم وفضح دورهم، ليحذرهم الناس ولا ينخدعوا بمعسول كلامهم ولا بلحن أقوالهم، وحتى لا يلبسوا على الناس دينهم

وختاماً أقول

إن الإمامة في الدين ليست وساماً يُقلَّد ولا نوطاً يُمنح ولكنها درجة لها شروطها الشرعية التي تعارف عليها المسلمون.

إن درجة الإمامة تظل موجودة ومحفوظة لصاحبها بوجود شروطها ولكن حين تختل هذه الشروط أو بعضها أو حتى أحدها فلا مُحاباة لأحد -كائناً من كان- في دين الله، وشرع الله أولى بالاتباع .

 

زر الذهاب إلى الأعلى